معني التصوف و منهاجه
جرت عادة ثير من الدراسين للتصوف الإسلامي أن يجعل الأصل الذي اشتقت منه هذه الكلمة نقطة البدء في بحوثهم. لكن نلاحظ اختلاف وجهات النظر في تحديد هذا الأصل. فمنهم من يرجعه غلي الصوف، ويسمونه علم الخرَق في مقابل علم الورق، أي علم الشريعة، ثم ينسبونه إلي الامام علي رضي الله عنه علي اعتبار أنه ليس الصوف، واتخده شعارا للتصوف. وتنم المقابلة بين التصوف والشريعة عن الصراع الذي ما زالها نشهد بين الصوف و الفقهاء، في حين أنه كان ينبغي أن يكون الفقهاء هم الصوفية والصوفية هم الفقهاء. غير أن الأمور لم تتخذ هذا الأتجاه، بل نظر الصوفية إلي الفقهاء نظرة الازدراء والاستخفاف، بينما نظر الفقهاء الي الصوفية نظرة الريب والشك. فكان من الضروري أن ينشب الصراع بين الفريقين لعوامل سياسية واجتماعية وثقافية. وبخاصة بعد أن تطرقت إلي الفكر اللإسلامي وحضارات الأمم التي خضعت لحكم المسلمين .
وقد بدأ هذا الصراع منذ عهد مبكر، وتشكل بصور مختلفة، سياسية ودينه وعنصره . ثم اشتدت حدته حتي بلغ الذروة في القرنين الثالث والرابع الهجرية، أي عندما أسفرت الحركة الاسماعيلية عن وجهها، وخرجت من دور الستر إلي دور الظهور . ويمكن القول بأن آثار هذا الخلاف بين الفقهاء والصوفية ما برحت ما ثلة. ولكن بصور تتفاوت حدة، في مختلف الأقطار الإسلامية.
وهناك من يرجع مصطلح التصوف إلي اصحاب الصفة ، وهم فقراء المسلمين المستضعفين في عهد الرسول، ممن مالوا إلي الزهد والتقشف. وهناك آخرون يحاولون إرجاع هذه الكلمة إلي الصفاء ، رغم ما يبدو في إستقاقها من التعسف ومن غلبه الطابع اللفظي ، فيقولون : إنما سمي أصحاب هذه الطريقة بالصوفية ، لأن كل واحد منهم قد صافي فصوفي، وهاكذا أصبح صوفياً. ويحكم هؤلاء بأن كلمة الصفاء وردت علي لسان كثير من أصحاب هذه الطائفة.
وقد ذهب البيروني في كتابه (تحقبق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة) إلي تفسير آحر ، إذ يري أن الصوفية كلمة مشتقة من صوفيا (sophia) أي الفلسفة . فهو يقول : ( السوفية وهم الحكماء . فإن (سوف) باليونانية الحكمة ، وبها سمي الفيلوسوف (بيلوسوفا) ، أي محب الحكمة. زلما ذهب في الإسلام قوم إلي قريب من رأيهم سموا بإسمهم .ولم يعرف اللقب بعضهم ، فنسبهم للتوكل إلي الصفاء ، وأنهم أصحابها في عصرالنبي ، صلي الله عليه وسلم ، ثم صحف بعد ذالك . فصير من صوف التيوس.
تلك هي الآراء التي قيلت في تفسير اشتقاق كلمة الصوفية. ويبدؤ أن رأي البيروني ، الذي يقارن فيه بين عدة تفسيرات ممكنة ، يحمل التفسير الحقيقي بين ثناياه . ومع ذالك ، فإنما نميل إلي اختيار احد هذه التفسيرات بناء علي المضمون الفعلي للمذاهب الصوفية ، بدلا من الدخول في مناقشه الآراء السابقة ، كل رأي منها علي حدة ، وفي إيراد الاعتتراضات والردود ، مع الاحتجاج بسيل من النصوص المؤيدة والمعارضة ، إن مثل هذه المناقشات اللغوية توجد مفصلة في كثير من الكتب التي ألفت في التصوف ، أو في تاريخ طبقاته ورجاله.
ونفصل نحن أن نتبع منهجا آخر هو أقرب إلي المنج الموضوعي منه إلي المنهج التاريخي ، وإن كنا لا نقلل من أهمية هذا المنهج الأخير . ذلك لأن هذا المنهج قد يكون مضللا إذا لم يحسن المرء استخدامه . وهو يتطلب في المقام الأولي أن ننقد فيه النصوص نقدا داخليا و خارجيا ، تبعا للقواعد التي يقررها علماء النهج التارخي من أمثال ابن خلدون وسينيوبوس واصحاب مصطلح الديث.
أما المنهج الذي نرتضيه هنا فهو أن نتابع حركة علم الباطن أو التصوف منذ صدر اللإسلام حتي دور ظهور في الإسماعيلية ، وذالك للتحقق من صدق هذا الفرض وهو : أيعد الصوفية من الباطنية ، كما أشار إلي ذالك ابن رشدإشارة عابرة ، أو التصوف ، اتجاح الأسلامي خالص لم تترق إليه عناصر غير إسلامية ؟ وهكذا نري أن نجمع بين المنهج الموضوعي والمنهج التاريخي ، بأن ندرس مضمون التصوف ، مسترشدين بالأحداث التاريخية التي نتخدها كمعالم لطريقنا في البحث.
وسنجعل نقطة البدء هنا موقف الصوفية من الامام علي رضيالله عنه فإن الجمهور الغالبة منهم يرون أنه زعيمهم ، وأنه أول المتصوفين في الإسلام ، وشأن الصوفية في ذالك شأن جميع الفرق الإسلام من أهل علم الكلام . فإن هذه الفرق تزعم الانماء إليه علي الرغم من الخلافات العميقة بينها . أما المصوفة فينسبون إليه علم الباطن ، ويخصونه بأنه تلقي أسرار التأويل عن النبيّ صلي الله عليه وسلم . فكأنهم يقابلون بين التنزيل ، أي القرأن . وبين التأويل مقابلتهم بين الظاهر والباطن ، تلك المقابلة التي سنجدها أشد ما يكون وضوحا وغلوا عند طائفة الإسماعيلية ، وفي الفرق التي تفرعت عنها فيما بعد .
وإياكان الأمر ، فجل المتصوفة في البلاد الإسلامية يجمعون علي أنهم يقتبسون طريقتهم من الإمام علي كرم الله وجهه ، وقد صرح بذالك الشبلي ، والجنيد وسري ا لسقطي ، وأبو يزيد البسطامي ، وأبو محفوذ الكوفي ، كما ينسبون إليه خرقة التصوف التي تعد شعارا لهم ، علي الرغم من أنهم قد أخذوا مضمون تصوفهم من مصادر أخر ،فيمايبدو.
كذالك نراهم يحددون أحوال التصوف ، وطبقات الصوفبة طبقا لما يقررونه من أنهم أخذوا ذالك كله عن الإمام علي بن أبي طالب، بل يصرحون أنهم أخذوا عنه الحكمة . (أما الحكمة والبحث في الأمور الإلهية فلم يكن من فن أحد من العرب ، ولا نقل في جهاز أكابرهم وأصاغرهم شيء من ذالك أصلا , وهذا فن كانت اليونان ، وأواثل الحكماء وأساطين الحكمة ، ينفردون به ، وأول من خاض فيه من العرب علي عليه السلام ولهاذا نجد المباحث الدقيقية في التوحيد والعدل مبثوثة عنه في فرس كلامه وخطبه ، ولا نجد في كلام أحد من الصحابة والتابعين كلمة واحدة من ذالك، ولا يتصورون ، ولو فهموه لم يفهموه ، وأن للعرب ذهلك ؟
وهذا النص الذي ينتهي إلي الجطا من شأن العرب ، والإنتقاص الخفي أو الظاهر من الصحابة والتابعين يشهد ، كما تشهد أقوال المتصوفة في فطرة الستر الباطنى ، بأن التصوف تفلسف ، وأنه ليس مأخوذاً من حرفةالصوف أو من الصفاء أو من الصفة ، بل سنري لللأسف أنه يحوي خيطا من المذاهب الفلسفة التفيقية ، التي تعد الثقافة المفضلة لدي الجمعيات السرية في الشرق والغرب ، وهي في المقام الأول جمعية سياسية ، لها أهذاف خاصة ، أهمها القضأء علي ما يسمونه التخالف بين الملوك ورجال الدين .
وإذن ،فليس يعجيب أن نجد بعض العناصر الشيعية في التصوف ، إذ أن التشيع نشأ سياسيا ، ثم زادت صبغته الدينية والفلسفية شيأفشيأ ،وربما تكون بعض هذه العناصر من صنع بعض غلاة الشيعة ،ومن اصحاب التنة الدينية ، كأبن شبأ وأضرابه ، غير أن هذا الغلو لا بمس مكانة الإمام علي رضي الله عنه في قلوب المسلمين جميعا .